في مئويته الأولى: انفجار المرفأ …. انفجار لبنان 1920
4 آب 2020 لبنانيًا كما 11 أيلول أميركيًا، لحظة حفرت عميقًا في وجدان الناس وكانت مفصل بين ما “قبل” وما “بعد”، هي لحظة نهاية فكرة لبنان غورو وفلسفات ميشال شيحا وخيال سعيد عقل ومثاليات مسرح الأخوين رحابنة ونظريات جماعة “اللّبنانوية” والاتجاه نحو “اللّاشيء” بأفق مسدود وتشتّت لا سابق له، كيف ذلك؟ ولماذا؟
غالبًا ما تحمل بعض الأحداث رموزًا يصعب فهمها وتفسيرها، مثلًا كيف نفهم تزامن الانفجار مع مئوية قيام لبنان الكبير؟ فكرة وفلسفة الكيان قامت على ركيزة المرفأ التجاري الذي منه انطلق الفينيقي وغزا العالم عبر المتوسط؟ الانفجار ضرب كل العاصمة ولبنان ولكنّه أوغل تدميرًا بأحياء شكّلت تاريخيًا عصب الوجود المسيحي في محيطه؟.
المرفأ، يعني لبنان الحديث ووجوده منذ عشرة عقود، وقد شكّل نقطة ارتكاز أساسية في فلسفة قيام الكيان وقدرته على العيش، وهو المرفأ التاريخي منذ حقبة الفينيقيين، ولكنّه بعد تراجع قوّة السلطنة العثمانية كان المدخل الفعلي للبعثات الغربية الاستشراقية التبشيرية كنقطة انطلاق للوصول إلى جبل لبنان ومنها إلى البر الآسيوي.
مع قيام لبنان الكبير والتحوّلات الاقتصادية في المحيط، أصبح ميناء بيروت ممرّ رئيسي لخدمة تجارة النفط وحركة الركاب والبضائع ذات الصلة ببلاد الشام والخليج، ما جعله يشكّل قاعدة رئيسية في تاريخ العاصمة وتحوّلاتها الاجتماعية والسياسية ونهضتها الاقتصادية، وشكل العمود الفقري لقيام مركزية الدولة وتمحورها حول بيروت وضواحيها.
إذن، منذ منتصف القرن الماضي أضحت بيروت، نفسيًا وماديًا، قبلة الأنظار ومصدر السلطة وقوّة شكيمتها، وساهم المرفأ بقيام وامتداد كل الضواحي في محيطه، وكل ذلك أدّى إلى تغيّرات عميقة في كل المفاهيم الاجتماعية والثقافية والسياسية، ونشوء بيئات مختلفة تجذرت إلى حدٍّ ما خلال قرنٍ من الزمن وشكّلت طوابع مختلفة ومتنوّعة.
انفجار يهز عمق الكيان
المرفأ أعاد التشاكل الهندسي للمدينة مع التوزيع البشري للسكان، بحيث تصبح العمارة والشوارع بدءًا من المرفأ – المركز، وعاءً يتم حشوه بأعداد ضخمة من شرائح المجتمع والحالات السكانية الفريدة التي ساهمت بالتحولات العميقة في المدينة وعلى امتداد الكيان اللّبناني.
وساهم بمركزية بيروت على حساب الأطراف والمدن والموانئ الأخرى، وتسبب بتغيير النمط الاقتصادي اللّبناني عبر التجار والوكالات الحصرية، ولكنّه بقدر مساهمته المادية قد ساهم بزيادة تشوّه النظام الاقتصادي والسياسي لغياب التخطيط والتوجه الاقتصادي الصحيح وكان القرار بذلك بيد مافيات السياسة والاقطاع المالي والاقتصادي وشبيحة السلطة على تعاقب أسمائها.
ما يوصف بالهبّة الاقتصادية الكبيرة ما بعد منتصف القرن الماضي، كان القشرة التي غطت وحمت ركائز الاحتكارات، والازدهار المالي والسياحي لم يتواكب مع تطوير النظام السياسي وتوزيع عادل للثروة، وتحوّل مرفأ بيروت وتجاره ومحيطيه إلى سيف مسلّط على كل القطاعات الانتاجية في البلاد وكان بابًا مفتوحًا للاستيراد والمضاربة، وهذا بالطبع ترافق مع صراع سياسي كبير أدّى إلى انفجار الحروب الكبرى والصغرى.
في لحظة واحدة مسّ انفجار المرفأ عمق الوجدان في الكيانات المحيطة، سيّما وأنّه قد ضرب بشكل مباشر أحياء الجميزة، الجعيتاوي، الأشرفية، مار مخايل، الكرنتينا (محطة الحجر الصحي العثماني للقادمين عبر المرفأ) والوسط التجاري….، وهي بيئات متعدّدة الانتماء الطبقي والمذهبي لكنّها إلى حدٍّ ما كانت تتشارك بعضًا من الأمان الاجتماعي والسياسي الهادئ، وهذا ما يفسر ردّة فعلها العنيفة.
لذا يمكن قراءة بعض من نتائج الانفجار الضخم في قلب لبنان الكبير، والآثار الضخمة التي سيتركها على مستقبل الكيان اللّبناني:
1- حجم التدمير الكبير بمنشآت الميناء يصعب إصلاحه سريعًا، وارتفاع تكلفة الإصلاح والترميم في ظل انهيار اقتصادي.
2- تحوّل سريع نحو الموانئ الداخلية الأخرى ما سيساهم في اعتمادها لاحقًا.
3- منافسة حادّة بين الموانئ العالمية ما يصعب على مرفأ بيروت اللّحاق بها.
4- المنافسة على إعادة إعمار المرفأ بين دول الغرب والصين وروسيا سيجعله محطّ خلاف سياسي يصعب حلّها عاجلًا.
5- ضمن الخريطة المفترضة لطريق الحرير الصيني يقع مرفأ طرابلس على رأس المشروع ما يطرح تساؤلًا عن دور مرفأ بيروت لاحقًا.
6- قامت فلسفة الكيان اللّبناني على أولوية “وطن السياحة والخدمات” فأيّ سياحة وخدمات بقي لوطن الأرز؟.
بغض النظر عن بشاعة صورة الحدث الخارجية العنيفة، إلّا أنّه وبالعمق هو زلزال قد جرف مع حجارة المرفأ ومحيطه جزءًا من تاريخ بيروت ولبنان والمنطقة، وحفر عميقًا في وجدان “اللّبنانوية” المأخوذة بنظريات ميشال شيحا وجماعة المصارف والخدمات دون الالتفات للإنتاج الوطني في الأرياف والمدن البعيدة عن سلطة العاصمة.
هي لحظة تقول لنا: لبنانكم القديم قد انتهى ومصدر قوّته قد تناثر هباءً، لا تبكوا عليه الآن وأنتم لم تحافظوا عليه سابقًا، طيلة قرنٍ من الزمن كنتم رمزًا لفساد سلطات جاء بها الأجنبي وحماها الفساد ونهبت خيرات البلاد، ولم تسمح بتطوّر الإدارة والسياسة أو تعمل على توزيع عادل للثروة وتستغربون لماذا انفجر الفساد بنترات الأمينيوم، وهل تستحقون أفضل من هذه النهاية؟.
إنّها نهاية كيان غورو وعريضة وبداية فوضى والتشتّت اللّامتناهي في المدى المنظور.
عامر ملاعب